لماذا مجلة اجتهاد؟

أصبحت الشريحة العربية والمسلمة تشكل مكونا وازنا في المجتمعات الغربية والأوروبية التعددية المعاصرة سواء على المستوى الديمغرافي أو المؤسسي أو المعرفي. وقد اتسعت رقعة الطلب لدى المسلمين على مختلف المنتوجات الفكرية والتربوية واللغوية والاقتصادية أمام انكماش العرض الذي لا يلبي هذه الحاجة الملحة، أو بالأحرى فإنه يوجد عرض لكنه لا يناسب متطلبات المسلمين وتطلعاتهم. وهذا ما ينطبق أيضا على المجال المعرفي الذي يقتضي مزيدا من التقويم والتأهيل والاجتهاد لمواكبة الشروط الحضارية الجديدة، حيث الحضور الإسلامي في أوروبا والغرب يشهد تحولات جذرية من سياق الهجرة إلى سياق المواطنة، من الطور الإشكالي إلى الطور الإسهامي ومن التموضع السالب إلى التعاطي الفاعل.

وعندما نقوم بتقييم لراهن المسلمين في أوروبا، بُعيد ما يناهز النصف قرن من انطلاق الهجرة العمالية في ستينات القرن الماضي، نجد أن هؤلاء تمكنوا من تحقيق عدد لا يستهان به من المكاسب التربوية والأكاديمية والمؤسسية والقانونية والسياسية. وهكذا صار المسلمون عامة والأجيال المسلمة الصاعدة خاصة تحضر وتساهم بشكل إيجابي في التعليم والبحث العلمي والمجتمع المدني والعمل السياسي والإعلام وغير ذلك. ولم يغب عنصر الهوية الإسلامية الأصلية في خضم هذه التحولات التي يمليها السياق العلماني والتعددي الجديد الذي يعيش فيه المسلمون، بل ظل يطرح نفسه دوما سواء عبر وسائل الإعلام ونقاشات السياسة أو في المؤسسات التعليمية والأكاديمية والبحثية.

وقد ظل الإسلام خلال قرون طويلة حبيس التنظيرات الاستشراقية والاستعرابية التي تدرس مختلف مباحثه اللاهوتية والفقهية والأخلاقية واللغوية من خارج المرجعية المعرفية والمنهجية الإسلامية، وقد أفضى ذلك الانشغال الاستشراقي إلى إرساء ما يعرف بحقول الدراسات العربية والإسلامولوجيا واللاهوت الإسلامي والدراسات القرآنية التي لا تكاد تخلو منها كليات الآداب واللغات واللاهوت في مختلف الجامعات الأوروبية والغربية العتيقة، ما أثرى هذه الحقول المعرفية والأكاديمية على مستوى البرامج الدراسية والمؤتمرات المتخصصة والإصدارات البحثية والمجلات العلمية المحكمة. وهكذا انفردت كل كلية أو قسم للدراسات الدينية أو اللغوية بمواد أو برامج خاصة بالدراسات العربية والإسلامية، وعُرفت بعض الجامعات بندوات علمية دولية متخصصة في بعض قضايا الإسلام واللغة العربية، وعمدت بعض المراكز الأكاديمية إلى إصدار مؤلفات ومجلات محكمة متخصصة في الدراسات العربية والإسلامية.

وفيما يتعلق بالمجلات العلمية المحكمة التي تتخصص في الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا والغرب، فقد سجلنا خمس ملاحظات نقدية، وهي كالآتي.

1.     إن أغلب هذه المجلات تصدرها جامعات ومراكز بحثية أوروبية وغربية غير إسلامية، وهي تتخذ من الإسلام واللغة العربية موضوعها البحثي الأساس.

2.     إن هذه المجلات تنطلق في مقاربتها للإسلام في الغالب الأعم من منطلقات "استشراقية" ونقدية خارجية، وتشترط على الباحثين، مسلمين وغير مسلمين، الخضوع للمعايير المعرفية والمنهجية التي تعتمدها.

3.     إن هذه المجلات تدرس الإسلام والثقافة العربية من المنظور الخارجي دون إعطاء أهمية كبيرة للمقاربة الداخلية، سواء التقليدية أو المعاصرة التي يسلكها الكثير من الباحثين ذوي الخلفية العقدية الإسلامية.

4.     هناك بعض المجلات التي لا تكتفي بوضع المعايير المنهجية الصارمة فقط، بل تخضع البحوث لجهازها التحكيمي الذي لا يخلو من التأثيرات الإيديولوجية والاستشراقية التي لا تقبل المسلمات اللاهوتية والفقهية والأخلاقية الإسلامية.

5.     هناك توجه جديد لدى الكثير من المجلات الدولية المحكمة، وهو اشتراط رسوم مالية "عالية جدا" على الباحثين مقابل نشر مقالاتهم، ما يجعل الهدف المادي يُهيمن على البحث الأكاديمي على حساب الأهداف المعرفية والتربوية والتوعوية.

وهذا يعني أنه بالرغم من التطور الكبير (والإيجابي إلى حد ما) الذي شهدته الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات ومراكز البحث الغربية والأوروبية، فلا يخلو التعاطي الأكاديمي في الغرب مع مباحث الإسلام بصفة خاصة من التحيز الذاتي والإيديولوجي على حساب الحياد والتجرد الموضوعي. وفي خضم هذه الوضعية غير المحمودة التي تعتري البحث الإسلامي في العالم الأكاديمي الغربي نشات فكرة إرساء مجلة علمية محكمة، وهي تركز من جهة على تناول المباحث الإسلامية والعربية من داخل مرجعيتها الأم مع الاستفادة من مكتسبات البحث العلمي الغربي لا سيما المنهجية والتقنية والتواصلية والطباعية. وتقارب من جهة أخرى الإسلام وقضايا المسلمين من داخل السياق الأوروبي والغربي مع الانفتاح على المقاربات الموضوعية الوافدة من خارج أوروبا والغرب. وهكذا نمنح في هذه المقاربة حيزا لدراسة الإسلام من منظوره الداخلي الذي تكاد تغيب في الدراسات العربية والإسلامية المعتمدة في الغرب، وفي الوقت نفسه ننطلق من الداخل الأوروبي والغربي سواء لتقريب الحضور الثقافي والديني والأدبي والأكاديمي الإسلامي فيه أو لتفكيك الدراسات الغربية التي تشتغل أكاديميا بذلك الحضور.  وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى بعض التجارب الأكاديمية الأوروبية التي بدأت في العقود الأخيرة تعتمد مقاربة تدريسية وبحثية تنطلق من داخل الإسلام، وعلى رأسها تجربة كلية اللاهوت والدراسات الدينية بجامعة لوفان في بلجيكا، حيث يتمتع الطالب والباحث المسلم بمساحة كافية لتلقي العلوم الإسلامية تماما كما تدرس في الجامعات الإسلامية مع منح حيز للمقاربات الخارجية الغربية التقليدية والمعاصرة.

بقلم رئيس التحرير: د. التجاني بولعوالي